مزيد من عبور الأيدولوجيا

نشر بتاريخ: الأحد، 17 مارس 2019 طباعة البريد الإلكتروني

بقلم: هاني أبوالقاسم

 

أن يصفك اليمين باليسارية في ذات الوقت الذي يصفك فيه أنصار اليسار باليمينية يشير إلى الاستقطاب الحاد بين الطرفين ويشير إلى عدم تمكن أي منهما، بسبب تصلب الجذور الفكرية، من تقبل احتمال وجود مسار؛ بل مسارات أخرى. وعندما يفهم البعض أننا كعابرون للأيدولوجيا ندعي أنه يمكن للسياسة أن تفك ارتباطها بالأيدولوجيا، الأمر المستحيل بطبيعة الحال، فذلك قصور في قدرة الكثير من تلاميذ تلك المدرسة على التحليل.

 

عبور الأيدولوجيا Trans-Partisanship لا يعني بأي شكل رفض الأيدولوجيا Non-Partisanship ففي عبور الأيدولوجيا هناك اعتراف ضمني بوجاهة نظر جزئية في التضاد الفكري، فليس اليسار على حق دائم أو على خطأ طول الطريق وليس اليمين كذلك أيضا. بالنسبة للكثير من المتعصبين يمينا ويسارا، تأتي هذه الفكرة مصحوبة بافتراضات حول عدم إمكانية ايجاد "حلول" أخرى نظرا لطبيعة المدرسة الفكرية غير المرنة والشمولية في بعض الأحيان، بحيث أن كلمة "Trans" في "Trans-Partisan" تعني لهم ما يشبه "تجاوز Transcending" بدلاً من شيء مثل "عبور Crossing" أو "بناء الجسور bridge-building" بين الاختلافات التي هي في الأصل صحية بين التيارين، لأن في التنوع ووجود الخيارات المتعددة عنصر قوة، مع التحفظ طبعا على صحية الاختلاف في الواقع والتاريخ السوداني بين الطرفين.

 

عبور الأيدولوجيا يسعى إلى إيجاد حلول براقماتية للإشكالات السياسية الصرفة (وليست الفكرية المحضة) ليست فقط مستوحاة من الثنائية القطبية (يمين ويسار)، بل انها قادرة على خلق مساحات لإنتاج حلول جديدة مستفيدة من حقيقة رباعية الأقطاب، اليمين واليسار في تضاد أفقي والحرية والنظام في التضاد الرأسي، وما بين ذلك من تقاطعات كما يطرح لورنس تشيكرنق وجيمس تيرنر في The Four-Quadrant Transpartisan Matrix.

 

Credit: transpartisanreview.org

 

الحقيقة أن الاستقطاب الحاد ليس فقط بين اليمين واليسار، لكن على المستوى المدرستين هناك استقطاب داخلي لا يختلف حدة يتجلى بوضوح في محور الحرية مقابل النظام داخل كل مدرسة أكثر من غيره في المحاور. فاليمين السياسي في السودان ظل ينقسم منذ نعومة أظافر حركة الاخوان المسلمين السودانية إلى الانقسامات العديدة التي رافقت مسيرة التيار اليميني السوداني التقليدي، واليسار السوداني في المقابل أيضا أدى الاستقطاب الداخلي فيه إلى ظهور تيارات كحركة حق على سبيل المثال إضافة إلى التفرعات العديدة الأخرى الظاهرة للمتابع لهذا الشأن. هذا الاستقطاب الداخلي، والذي نعتبره صحي أيضا، ليس حصرا على اليمين واليسار السوداني، فحزب العمال البريطاني المحسوب على اليسار أيضا عانى منه إبان تولي توني بلير رئاسة الحزب والذي قاد الحزب نحو نيو-ليبرالية، ومازال الاستقطاب مستمرا حتى بعد تولي جيرمي كوربن قيادة الحزب وقيادته لحركة تصحيحية مضادة لنيو-ليبرالية بلير. الحال ذاته في الحزب الجمهوري الأمريكي المحسوب يمينا في السياسة الأمريكية، هذا الاستقطاب الحاد بدا ظاهرا في مؤتمر الحزب في 2014 ومن ثم بدا أكثر وضوحا في فترة التحضير للانتخابات الرئاسية في 2016.

 

عبور الأيدولوجيا يرى أن كل طيف من الأطياف الأيدلوجية لديه وجاهة نظر فيما يطرح بشكل جزئي. الحقيقة أنه لا يمكن لأحد أن يمتلك الحق المطلق ونحن نعتقد أن العقلاء في جميع الأطراف يتفقون مع هذا المبدأ. لذا نسعى كعابرون للأيدولوجيا أن نوجد حلولا لإشكالات السياسة الحقيقية والمتمثلة في الأهداف الكلية أو النهائية للسياسة، دون انحياز كامل أو شامل لمدرسة ايدولوجية معينة.

 

ربما يجب أن نتوقف هنا لنشير أن الأحزاب السياسية هي مؤسسات تسعى إلى الوصول للحكم لتطبيق برنامج سياسي معين هدفه النهائي هو خدمة المواطن ورفاهيته وتوفير حياة (واقع ومستقبل) أفضل، باعتبار المواطن هو صاحب السلطة العليا ويمارس سلطته هذه عبر الانتخابات.

 

في خضم سعينا كسودانيين عابرون للأيدولوجيا لتحقيق الغايات النهائية من السياسة عبر توفير الماء والكهرباء والتعليم والصحة كأمثلة، فإننا نعتبر أن أولوية توفير هذه الخدمات آنيا (في أسرع وقت) مع تحسن مستمر في مستواها وفي مدى استمراريتها sustainability  يأتي مقدما على أي اعتبارات أيدولوجية من شاكلة إشكالات التمويل إذا ما كان مرتبطا بالرأسمالية العالمية كما يتخوف اليسار أو كان مرتبطا بالبنوك التي تتعامل بالربا كما يخشى اليمين على سبيل المثال. فمتى ما توفرت أسس الحياة الكريمة فإن التطور المجتمعي الطبيعي الناجم عن ذلك، قادر على انتاج أدوات تحقق له استقلالية واستمرارية أفضل.

 

يتبع....

 


 

الرسم التوضيحي مقتبس من فكرة جيمس تيرنر ولورنس تشيكرنق في موقع transpartisanreview.org الرسم التوضيحي باللغة العربية هو من تصميم ادارة الموقع. يمكنكم الاطلاع على ورقة تيرنر وتشيكرنق كاملة محتوية على الرسم التوضيحي بالضغط هنا.

 

الزيارات: 3426